ماذا حدث؟
في خطوة أثارت صدمة عالمية، كشف تسجيل صوتي مدته 13 دقيقة عن محادثة بين وزير العدل في حكومة بورتسودان، معاوية عثمان، والقاضي الأردني عون الخصاونة، عضو محكمة العدل الدولية.
التسجيل، الذي تم تسريبه قبل جلسة مرتقبة تتعلق بنزاع قانوني مع دولة الإمارات، يوثّق طلب الوزير السوداني من القاضي تقديم مشورة قانونية أو حتى التعاقد معه للدفاع عن موقف السودان.
لكن المفاجأة المذهلة كانت عندما أوضح الخصاونة أن قواعد المحكمة تمنعه من الترافع أو تقديم أي استشارات، كونه قاضيًا مؤقتًا ملزمًا بالحياد التام.
النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، وتحديدًا المادة 18، ينص بوضوح على حظر أي نشاط استشاري أو تحكيمي للقضاة، سواء كانوا دائمين أو مؤقتين، لضمان استقلالية القضاء.
لتسجيل يكشف أيضًا عن لقاءات سابقة بين الطرفين، مما يشير إلى نمط متكرر من المحاولات لخرق هذه القواعد.
هذا الانتهاك، الذي يُعد الأول من نوعه في تاريخ المحكمة منذ إنشائها عام 1945، يضع حكومة بورتسودان في موقف محرج، ويسلط الضوء على جهل قانوني أو ربما تعمد للتأثير على نزاهة القضاء الدولي.
الخبراء القانونيون، الذين استمعوا إلى التسجيل، اعتبروا هذا السلوك “اعتداءً صارخًا” على أسس العدالة، مما يهدد بتقويض ثقة الدول في المحكمة كجهة محايدة.
لماذا هذا مهم؟
هذه الفضيحة ليست مجرد خطأ إداري أو سوء تقدير، بل زلزال يهدد أركان العدالة الدولية، محكمة العدل الدولية، التي تُعرف بـ”المحكمة العالمية”، هي الملاذ الأخير لتسوية النزاعات بين الدول، وتعتمد بشكل أساسي على سمعتها كجهة مستقلة ومحايدة.
أي خرق لحيادها يُعد بمثابة طعنة في قلب مصداقيتها، خاصة في وقت تتصاعد فيه التوترات الدولية، وتتزايد النزاعات المعروضة أمامها، مثل قضايا الحدود البحرية أو الانتهاكات الإنسانية.
التسجيل المسرّب يُظهر محاولة واضحة من حكومة بورتسودان لاستغلال منصب القاضي الخصاونة، مما يثير تساؤلات عن مدى التزام الدول الأعضاء بقواعد المحكمة.
هذا الانتهاك يُعرّض ليس فقط القضية المرتبطة بالإمارات للخطر، بل يُلقي بظلال من الشك على جميع القرارات المستقبلية التي قد يشارك فيها القاضي المذكور.
علاوة على ذلك، فإن هذا الحادث يكشف عن فجوات في آليات الرقابة داخل المحكمة، التي فشلت في منع مثل هذه الاتصالات غير المشروعة قبل تسريبها.
على الصعيد السياسي، تُعد الفضيحة ضربة قاصمة لسمعة السودان، خاصة حكومة بورتسودان، التي تواجه بالفعل تحديات داخلية وخارجية.
هذا الخرق يُظهر ضعفًا في الكفاءة القانونية، وربما نية للتلاعب بالنظام الدولي لتحقيق مكاسب سياسية، كما أن تورط قاضٍ من دولة عربية مثل الأردن يُضيف بُعدًا إقليميًا حساسًا، قد يُثير توترات دبلوماسية، خاصة مع الإمارات، التي تُعد طرفًا في النزاع.
عالميًا، يُعيد هذا الحدث فتح النقاش حول إصلاح المؤسسات القضائية الدولية، التي تواجه اتهامات متكررة بالتسييس أو التأثر بالضغوط السياسية.
من منظور أخلاقي، تُبرز الفضيحة أزمة النزاهة في الأنظمة القانونية، حيث يُفترض أن تكون المحكمة رمزًا للعدالة المطلقة، فإذا سُمح لهذا الانتهاك بالمرور دون عقاب، فقد يُشجع دولًا أخرى على محاولات مشابهة، مما يُهدد بتحويل المحكمة إلى ساحة للمناورات السياسية بدلاً من معقل للعدالة.
ماذا بعد؟
أمام هذا الزلزال القانوني، تتجه الأنظار إلى رد فعل محكمة العدل الدولية والمجتمع الدولي، ويطالب المختصون بما يلي:
أولاً، يجب أن تُجري المحكمة تحقيقًا عاجلاً وشفافًا للوقوف على ملابسات الحادث، مع التركيز على طبيعة الاتصالات بين الوزير السوداني والقاضي الخصاونة، فإذا ثبت تورط القاضي، فإن المادة 18 من النظام الأساسي تُلزم بإجراءات تأديبية، قد تصل إلى عزله أو تعليق عضويته، للحفاظ على نزاهة المحكمة.
كما يتعين على المحكمة النظر في فرض عقوبات رمزية على حكومة بورتسودان، مثل تعليق مشاركتها في جلسات معينة، لردع أي محاولات مستقبلية.
ثانيًا، تُعد هذه الأزمة فرصة لتعزيز آليات الرقابة داخل المحكمة، حيث يقترح الخبراء إنشاء لجنة مستقلة لمراقبة تفاعلات القضاة مع الأطراف الخارجية، إلى جانب برامج تدريب دورية لتعزيز الوعي بقواعد الحياد.
كما يُطالب المحللون بتعديل النظام الأساسي ليشمل عقوبات أكثر صرامة على الدول التي تحاول التأثير على القضاة، مثل الحرمان من حقوق التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لفترة محددة.
على الصعيد السوداني، تواجه حكومة بورتسودان ضغوطًا متزايدة لتقديم توضيحات علنية ومحاسبة الوزير معاوية عثمان، وقد يُطالب الرأي العام الداخلي باستقالته، خاصة إذا أدت الفضيحة إلى تعقيد موقف السودان في النزاع مع الإمارات.
كما يتعين على الحكومة مراجعة إجراءاتها القانونية وتدريب فرقها القانونية لتجنب تكرار مثل هذه الأخطاء، التي تُظهرها كجهة غير مؤهلة للتعامل مع القضايا الدولية.
دوليًا، ستدفع هذه الفضيحة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إلى المطالبة بإصلاحات هيكلية، مثل تعزيز الشفافية في تعيين القضاة أو وضع آليات للإبلاغ عن الخروقات بشكل مجهول.
في الوقت ذاته، قد تستغل دول منافسة هذا الحادث للتشكيك في شرعية المحكمة، مما يزيد من التحديات التي تواجهها في الحفاظ على مكانتها كجهة قضائية عالمية.