الحرب الثقافية.. كيف ربحها ترامب داخل أمريكا؟

دونالد ترامب

ماذا حدث؟

في مفارقة سياسية تاريخية، تحوّل العمود الفقري للحزب الديمقراطي الأميركي- الطبقة العاملة- إلى خزان انتخابي داعم للرئيس الجمهوري دونالد ترامب في انتخابات 2024.

هذا التحوّل الجذري ظهر جلياً في الولايات المحورية مثل بنسلفانيا وميشيغان وويسكونسن، حيث حصل ترامب على دعم واسع من ناخبين كانوا قد صوتوا سابقاً لباراك أوباما وجو بايدن، بل وكانوا يمثلون قاعدة قوية لحركة “الصفقة الجديدة” في القرن الماضي.

وبينما نجح الديمقراطيون سابقاً في الحفاظ على هذه القاعدة من خلال النقابات والسياسات الاقتصادية، إلا أن المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس خسرت أصوات هؤلاء الناخبين بفارق كبير: 13 نقطة على مستوى البلاد، و17 نقطة كاملة في بنسلفانيا- ما يكفي لإعادة ترامب إلى المكتب البيضاوي.

لكن السؤال الأهم لم يكن فقط “من صوت لمن؟”، بل “لماذا؟”.

الإجابة لم تقتصر على الاقتصاد أو البطالة، بل كشفت عن معركة أعمق تدور في أعماق المجتمع الأميركي: حرب ثقافية شرسة حول الهوية، القيم، والانتماء.

لماذا هذا مهم؟

ما حدث في انتخابات 2024 ليس مجرد تناوب في الحكم، بل تغيير في اتجاه البوصلة السياسية للناخب الأميركي، ورغم أن الوضع الاقتصادي كان حاضراً بقوة في أذهان المصوتين، فإن البيانات أظهرت أن قضايا “الثقافة”- وعلى رأسها حقوق المتحولين جنسيًا والهجرة- لعبت دوراً محورياً في إعادة تشكيل الولاءات السياسية.

الحملة الجمهورية، بقيادة ترامب، ركزت على خطاب يستحضر “الزمن الجميل” كما يراه ناخبوه: أسعار معيشة أرخص، مجتمع متجانس، وقيم تقليدية واضحة المعالم.

في المقابل، فشلت حملة هاريس في استقطاب الانتباه رغم وعودها بإصلاحات ضريبية وتحسين الرعاية الصحية وتوفير مساكن ميسورة. لم تصل رسائلها إلى قلوب الناخبين، الذين شعروا بالانفصال عن النخبة السياسية.

الأكثر إثارة للانتباه أن قضايا مثل التحول الجنسي، التي خُصص لها مئات الملايين من الدولارات في الإعلانات الانتخابية، أصبحت مركز ثقل في القرار الانتخابي، فترامب ظهر كمدافع عن “القيم الأميركية الأصيلة”، بينما صُوّرت هاريس كرمز لسياسات تقدمية تهدد هذا التصور المحافظ للهوية الوطنية.

أما النقابات، التي لطالما مثّلت خط الدفاع الأول عن مصالح العمال، فبذلت جهوداً مضنية في تعبئة أعضائها- ونجحت جزئياً، لكن المشكلة تكمن في أن الغالبية من الطبقة العاملة لم تعد منضوية في النقابات، وبالتالي أصبحت عرضة لتأثير الحملات الجمهورية دون حصانة فكرية أو إعلامية.

ماذا بعد؟

التحوّل السياسي العميق داخل الطبقة العاملة الأميركية ليس مؤقتاً، بل يُنذر بإعادة تشكيل المشهد السياسي لعقود قادمة، فإن لم يتمكن الديمقراطيون من سد الهوّة الثقافية التي تفصلهم عن قواعدهم التقليدية، فإن خسارتهم لهذه الفئة قد تتحول من انتكاسة انتخابية إلى هزيمة بنيوية دائمة.

من الواضح أن الحزب الجمهوري بقيادة ترامب استطاع تأطير معركته كصراع من أجل “الهوية الأميركية”، محولًا قضايا مثل الهجرة وحقوق المتحولين إلى أدوات سياسية فعالة، وفي غياب رد ديمقراطي حاسم، تحولت هذه القضايا إلى رواية وحيدة ترسخت في أذهان كثير من الناخبين.

تقرير مركز “بروكينغز” يلخص هذا التحدي بعبارة بليغة: “بنسلفانيا هي صورة مصغّرة للتحدي الوطني الذي يواجه الديمقراطيين. إن لم يستطيعوا فك شيفرتها، فلن ينجحوا في كسب أميركا.”

ومع استمرار التآكل في الروابط بين الطبقة العاملة والحزب الديمقراطي، سيبقى السؤال معلقاً: هل يفهم الديمقراطيون أن المعركة المقبلة ليست فقط على أسعار الدواء والسكن، بل على روح وهوية الأمة؟ أم يواصلون تجاهل الصوت الهادر من المصانع والضواحي وبلدات الريف، لصالح نخب المدن التي تتحدث لغتهم ولكن لا تشاركهم قضاياهم؟

الحرب الثقافية لم تعد معركة جانبية… بل أصبحت جبهة رئيسية تُحدد من يحكم أميركا.

شارك هذه المقالة
لا توجد تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *