ماذا حدث؟
انتشر في الأيام الأخيرة مقطع فيديو أثار ضجة على مواقع التواصل الاجتماعي بمصر، يظهر فيه إخوة يتشاجرون بعنف مع شقيقهم بسبب قيامه بتسجيل ممتلكاته كاملة لصالح بناته، في خطوة اعتبروها تحايلاً على أحكام المواريث الشرعية.
لم يكن الفيديو سوى شرارة جديدة تشعل نار الجدل القديم المتجدد حول قوانين الميراث في العالم الإسلامي، تبعها إطلاق الدكتور سعد الدين الهلالي، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، تصريحات مثيرة عن إمكانية المساواة بين الذكر والأنثى في الميراث، مؤكدًا أن “المطالبة بالمساواة ليست محرمة بنص قرآني صريح”.
الهلالي استشهد بتجارب دول مثل تركيا التي أقرت المساواة منذ عام 1937، وببعض الممارسات الاجتماعية في مصر التي تنتهج التقسيم المتساوي بين الأبناء والبنات تراضيًا، مشيرًا إلى أن الفقه قابل للتأويل، وأن وظيفة العالم هي البيان لا الإلزام.
ورأى الهلالي أن النص القرآني “يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ” لا يحمل منعًا قاطعًا للمساواة، بل هو توجيه لضمان حق الأنثى، وليس تفضيلًا مطلقًا للذكر.
في المقابل، جاء رد الأزهر عبر مركز الفتوى الإلكترونية حاسمًا وحادًا، مؤكدًا أن أحكام المواريث في الإسلام “قطعية لا تقبل الاجتهاد”، وأن الترويج لتفسيرات شخصية أو قوانين بديلة هو “افتئات على الشرع”، ويمثل تغذية لروافد الفكر المتطرف والانحراف السلوكي، ومساسًا خطيرًا بالأمن الفكري والاجتماعي.
لماذا هذا مهم؟
هذا الجدل لا ينفصل عن تحولات اجتماعية أوسع، تتقاطع فيها الأسئلة حول الثوابت الشرعية، والمواءمة بين الفقه الإسلامي والتغيرات المجتمعية.
الميراث، بصفته ركيزة اقتصادية واجتماعية، يشكل نقطة تماس بين الدين والقانون والعرف، ويؤثر بشكل مباشر في تركيبة الأسر واستقرار المجتمعات.
التصريحات التي تطالب بتعديل أو تأويل الأحكام الثابتة في الميراث تُقابل بترحيب لدى فئة ترى أن هذه النصوص لا تواكب واقع المرأة اليوم، خصوصًا في ظل الأدوار الاقتصادية المتغيرة، لكن في المقابل، فإن المؤسسات الدينية ترى في هذه الدعوات تهديدًا لهوية الأمة، وتفكيكًا متعمدًا لبنيتها التشريعية القائمة.
ردود الأزهر لم تكتفِ بالتأكيد على قدسية النصوص، بل حذرت من أن إشاعة أفكار “الفردانية الدينية” تقود إلى فوضى تشريعية، وتفتح المجال أمام التمرد على القانون والدستور، وهو ما يُعد خطرًا داهمًا على الأمن المجتمعي والديني معًا.
متى بدأ جدل تقسيم الميراث؟
الباحث في التراث الإسلامي هاني عمارة يرى أن الصراع السياسي في التاريخ الإسلامي خصوصًا في العصر العباسي ترك أثرًا واضحًا على بعض أحكام المواريث، ويوضح أن هناك أربع مسائل رئيسية ساهمت في إقرار تقسيمة الميراث وفق المذاهب الإسلامية.
ويكشف عمارة أن أول هذه المسائل: إشراك الأعمام في ميراث البنات، حيث أعطى الفقه السني- الذي دون في العصر العباسي- الأولوية للذكور كـ”أولى رجل ذكر”، بينما منح الفقه الشيعي الإناث كامل الميراث عند غياب الذكر، رافضًا الحديث الذي يستند إليه السنة؛ نظرًا لما يحمله من دلالة سياسية تدعم العباسيين ضد العلويينن حيث يرى العلويون أن النبي ورثته ابنته فاطمة وحجبت أعمامه، في يرى العباسيون أن النبي ورثه عمه العباس باعتباره العم الحي وقت انتقاله للرفيق الأعلى.
ويضيف عمارة أن قاعدة حرمان غير المسلم من التوارث مع المسلم، استخدمها العباسيون لإسقاط حق الإمام علي في ميراث أبيه أبي طالب، بحجة موته كافرًا، رغم أن وفاته كانت قبل التشريع، ويستكمل أن قاعدة منع الوصية للوارث، اعتمدها السنة لإبطال دعوى الشيعة بأن النبي أوصى بالخلافة للإمام علي، فجرى التعامل مع الميراث كأمر جبري لا وصية فيه.
ويختم عمارة أن المسألة الرابعة التي أثارت قضايا الميراث من وقت العباسيين هي حرمان الحفيد من الميراث في وجود أعمامه، وهو ما أدى لاحقًا لإقرار “الوصية الواجبة” في القانون المصري، رغم معارضة الأصوليين.
ويرى عمارة أن الندرة الغريبة في روايات هذه المسألة قد تكون ناتجة عن خشية العباسيين من فتح باب الاجتهاد الذي قد يُستغل سياسيًا لصالح خصومهم العلويين.
ماذا بعد؟
المشهد مرشح لمزيد من التصعيد، في ظل بقاء ساحة النقاش مفتوحة بين تيارات تطالب بـ”تجديد حقيقي” يتضمن مراجعة الأحكام الفقهية القديمة، وأخرى ترى أن أي مساس بالأحكام القطعية هو تقويض لثوابت الدين، ومنهج يُعيد إنتاج فكر الجماعات المتطرفة.
قد نشهد في الأيام القادمة مزيدًا من الردود المؤسسية سواء من الأزهر أو دار الإفتاء، لحسم الجدل وتهدئة الرأي العام، لكن في الوقت نفسه، من المتوقع أن تستمر الشخصيات المثيرة للجدل مثل الهلالي في طرح رؤاها المثيرة للانقسام، مما يضع المؤسسات الدينية في حالة استنفار دائم.
وسط هذا الجدال، يظل المواطن البسيط حائرًا بين ما يسمعه على الشاشات، وما تفرضه القوانين، وما تقتضيه الأعراف الاجتماعية. فهل سيتجه المجتمع نحو إعادة فهم المواريث وفق الواقع المتغير؟ أم ستبقى النصوص القطعية عصية على التبديل؟