ماذا حدث؟
في خمسينيات القرن الماضي، كانت الولايات المتحدة تتربع على عرش الصناعة عالميًا؛ إذ كانت ما يقرب من 35% من وظائف القطاع الخاص تدور في فلك التصنيع.
أما اليوم، فلا تزيد نسبة العاملين في هذا القطاع عن 9.4%، بما يعادل 12.8 مليون وظيفة فقط، فقد تراجعت الولايات المتحدة من كونها مصنع العالم إلى اقتصاد يهيمن عليه قطاع الخدمات.
تُعزى هذه التحولات الجذرية إلى عوامل عدة: في مطلع القرن العشرين، كانت أمريكا رائدة في استخدام الأجزاء القابلة للتبديل وتقنيات الإنتاج الكمي، وهي مقومات دفعت باقتصادها إلى الأمام، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، التي زادت من قدراتها التصنيعية بينما دمرت اقتصادات منافسيها.
ومع صعود الطبقة الوسطى في فترة ما بعد الحرب، ازدهر الطلب على السلع المعمرة عالية التقنية آنذاك مثل التلفزيونات والطائرات، والتي كان تطويرها يتطلب تعاونًا وثيقًا بين فرق البحث والمصانع الأمريكية.
لكن منذ الستينيات، بدأ التحول الكبير، فمع ازدياد ثراء الأميركيين، تحوّلت أنظارهم نحو قطاع الخدمات، من السياحة والرعاية الصحية إلى المصارف والقانون، وانعكس ذلك على سوق العمل، فتبعت الوظائف المال، وبدأت الصناعات تفقد بريقها.
لماذا هذا مهم؟
التحول من التصنيع إلى الخدمات لم يكن بلا ثمن، فقد بدأت الشركات الأمريكية بنقل مصانعها إلى الولايات الجنوبية حيث العمالة أرخص، ثم لاحقًا إلى دول أخرى في أميركا اللاتينية وآسيا.
ومع دخول الصين إلى منظمة التجارة العالمية في 2001، تسارعت وتيرة التدهور، فقد فتحت الصين أبوابها للاستثمار الأجنبي، وعرضت يد عاملة منخفضة الكلفة، مما أغرق السوق العالمي بالسلع الصينية الرخيصة.
في عام 2008، تجاوزت الصين الولايات المتحدة كأكبر مصدر للبضائع في العالم، وكان الضرر فادحًا، خاصة في الولايات الجنوبية والوسطى من أميركا، حيث تضررت مجتمعات بأكملها من فقدان الوظائف، فيما عرف لاحقًا بـ”صدمة الصين”.
وعلى الرغم من بعض المحاولات لإحياء الصناعة من خلال فرض الرسوم الجمركية، مثلما حاول الرئيس دونالد ترامب، إلا أن العديد من الاقتصاديين يرون أن هذه السياسات تُلحق ضررًا أكثر من نفعها، إذ ترفع الأسعار وتقلل من القدرة الشرائية دون ضمان حقيقي بعودة التصنيع.
ماذا بعد؟
هل يمكن للصناعة الأميركية أن تستعيد مجدها؟
يرى كثير من الاقتصاديين أن ذلك ممكن – ولكن ليس عبر العودة إلى إنتاج القمصان والأجهزة البسيطة، بل من خلال الاستثمار في الصناعات المتقدمة ذات البعد الاستراتيجي، مثل أشباه الموصلات والتقنيات الدقيقة، فهذه الصناعات لا تؤمن وظائف ذات أجور عالية فقط، بل تُعد أيضًا ضرورية للأمن الاقتصادي والعسكري.
تشير دراسة حديثة إلى أنه في عام 1980، كانت 39% من الوظائف ذات الأجور المرتفعة في أميركا تتركز في قطاع التصنيع، بينما انخفضت هذه النسبة إلى 20% بحلول 2021
وفي المقابل، ارتفعت حصة القطاعات المالية والقانونية والمهنية من 8% إلى 26%، هذا يعني أن التركيز يجب أن يتحول نحو دعم الابتكار، وربط البحث العلمي بالإنتاج، لا إلى محاولات عبثية لإحياء صناعات فقدت جدواها.