ماذا حدث؟
في أعقاب فوزه في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، توجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أوزبكستان في ثالث زيارة خارجية له بعد الصين وبيلاروسيا، ليبعث برسالة واضحة: آسيا الوسطى لا تزال محورًا استراتيجيًا لموسكو.
وفي ظل العقوبات الغربية المتزايدة على روسيا بسبب حربها في أوكرانيا، عززت موسكو استثماراتها في دول آسيا الوسطى، حيث أصبحت شركتا “لوك أويل” و”غازبروم” لاعبين رئيسيين في قطاع الطاقة الأوزبكي، في حين تسيطر روسيا على ربع إنتاج اليورانيوم في كازاخستان.
إلا أن هذه العودة الروسية إلى المنطقة لا تحدث في فراغ، فالصين، الخصم والشريك في آن واحد، تستثمر بهدوء وفعالية لبسط نفوذها، ففي قمة “الصين وآسيا الوسطى” عام 2023، تعهد الرئيس الصيني شي جين بينغ بدعم سيادة واستقرار المنطقة، مستبقًا أي فراغ قد تتركه روسيا.
وبحلول 2024، أصبحت الصين الشريك التجاري الأكبر لمعظم دول آسيا الوسطى، متجاوزة روسيا في هذا الدور التاريخي.
لماذا هذا مهم؟
آسيا الوسطى، التي تضم نحو 79 مليون نسمة موزعين على خمس دول، كانت لقرون ساحة تنافس بين القوى الكبرى، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ورثت روسيا نفوذًا سياسيًا وعسكريًا وثقافيًا، تعزز عبر منظمات مثل رابطة الدول المستقلة ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، لكن هذا النفوذ بدأ يتآكل تدريجيًا.
مواقف سياسية غير مسبوقة من زعماء المنطقة- مثل إعلان رئيس كازاخستان كاسيم-جومارت توكاييف عام 2022 رفضه للاعتراف بـ”الكيانات الشبه دولية” التي أنشأتها روسيا في أوكرانيا، أو استخدامه اللغة الكازاخية بدلًا من الروسية في مؤتمر صحفي مع بوتين- تعكس رغبة كامنة في إعادة تعريف العلاقة مع موسكو.
وفي الوقت ذاته، تخطو الصين بخطى ثابتة نحو موقع الشريك الموثوق، لكنها لا تسلم من الشكوك، فالمجتمعات المحلية تنظر بريبة إلى الاستثمارات الصينية، التي غالبًا ما تأتي مع عمالة صينية وتثير مخاوف من الوقوع في “فخ الديون”، فضلًا عن التوترات بشأن معاملة بكين لأقلية الإيغور المسلمة.
ماذا بعد؟
فيما يبدو أنه بداية لحقبة جديدة، تجد دول آسيا الوسطى نفسها في موقع تفاوضي أفضل، فهي لم تعد رهينة قطب واحد، بل توازن بين موسكو وبكين، وتفتح نوافذ جديدة نحو أنقرة و”التضامن الطوراني”، بحثًا عن بدائل للهيمنة الروسية والصينية.
الصين وروسيا تدعيان أن العلاقة بينهما “صداقة بلا حدود”، لكن على الأرض، يتضح أن التنافس بينهما آخذ في التصاعد، فروسيا تعتمد على التاريخ واللغة والعلاقات الأمنية، بينما تقدم الصين المال، البنية التحتية، والطموح طويل المدى.
حتى الآن، لم تتصادم مصالحهما بشكل مباشر، لكن مع تزايد التشابك في ملفات الطاقة والتجارة والنفوذ السياسي، يصبح احتمال الصدام أقرب إلى الواقع.
المرحلة المقبلة مرشحة لأن تشهد إعادة رسم خريطة النفوذ في قلب آسيا، حيث لم يعد بوسع موسكو الاعتماد على إرثها السوفيتي، ولا يمكن لبكين أن تغزو القلوب بنفس السرعة التي تغزو بها الأسواق، وفي هذا المشهد المعقد، أصبحت آسيا الوسطى ليست مجرد رقعة شطرنج، بل لاعبًا في حد ذاتها، يملك أخيرًا حق اختيار من سيلعب معه.