كتب / سلطان آل علي
في مشهد لا يُكتب في روايات جورج أورويل، ولا يخطر على بال نجيب محفوظ لو عاش في زمن الجنرالات، وقف قادة الجيش السوداني – أولئك المتهمون بجرائم حرب وإبادة جماعية – يلوّحون بأوراق الشكوى في محكمة العدل الدولية…
لا ليدافعوا عن أنفسهم، بل ليتهموا الإمارات بأنها سبب الحرب في السودان!
نعم، الإمارات… الدولة التي أرسلت القوافل، ونادت بالسلام، ودعت لوقف القتال، وتوسلت إلى عقولهم – التي كانت في إجازة مفتوحة – أن يعودوا إلى رشدهم.
لكن يبدو أن الجنرالات قرروا أن أنسب طريقة للهروب من تهمة الإبادة… هي اتهام من أرسل المعونات.
ولكي يكتمل مشهد العبث، فلنذكر أن من يعيشون اليوم تحت حماية الجيش نفسه، ويُعتبرون “رموزًا قومية” في بعض القنوات الرسمية، هم ذاتهم من أصدرت بحقهم المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بتهم تتعلق بالإبادة وجرائم الحرب:عمر حسن أحمد البشير:
الرئيس السابق للسودان، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي توقيف بحقه في 2009 و2010 بتهم تشمل الإبادة الجماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب في دارفور.
أحمد محمد هارون: شغل مناصب وزارية عديدة، منها وزير الدولة للشؤون الإنسانية، وصدر بحقه أمر توقيف في 2007 بسبب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور.
عبد الرحيم محمد حسين: وزير دفاع وداخلية سابق، أصدرت المحكمة بحقه مذكرة في 2012 تتعلق بـ20 جريمة ضد الإنسانية و21 جريمة حرب ارتُكبت في دارفور بين 2003 و2004.
وهؤلاء جميعًا… اليوم آمنون مطمئنون تحت عباءة الجيش الذي يُحاضر في العدالة الدولية ويتحدث عن “انتهاكات” الإمارات!
هؤلاء القادة الذين تلطّخت بزّاتهم برائحة البارود قبل أن تتلطخ أيديهم بدماء الأبرياء، قرروا اليوم أن يتقمّصوا دور ضحايا مؤامرة دولية إماراتية، وكأنهم كانوا يديرون جمعية خيرية، بينما تُقصف الخرطوم من الجو وتُهجر باقي المحافظات.
تخيل عزيزي القارئ، أنك قائد جيش تورط في جرائم حرب، ثم تقرر أن تشكو للإعلام والمحاكم الدولية أن السبب ليس قنابلك، ولا دباباتك، ولا خططك الجهنمية، بل الإمارات التي أرسلت شاحنات مساعدات ومستشفيات ميدانية، ورسائل سلام لم يقرأها الجيش ولم يتسلمها.
هؤلاء يعتقدون أن الذاكرة الجماعية للشعوب قصيرة… لا تتذكر من حاصر المدن، ومن فجّر المساجد، ومن طرد الأسر من بيوتها في دارفور، ومن ابتلع السلطة ورفض كل مبادرة للحوار.
يريدون من العالم أن يصدق أن من كان يوزع الغذاء متورط، ومن كان يوزع القذائف بريء!
وكأننا نعيش في مسرح عبثي، حيث المتهم يصبح قاضيًا، والجاني يضع على رأسه إكليل الضحية، ويتجه للمحكمة وهو يهتف: “أنا المظلوم يا سادة!
“الإمارات، التي كانت تدعو كل يوم لوقف الحرب، باتت فجأة في خط النار الأخلاقي لقادة لا يعرفون شيئًا عن الأخلاق، قادة لا يعرفون سوى لغة البيانات المتشنجة، والميكروفونات المكسورة، والخيارات الصفرية التي جعلت الوطن بين نارَين: نار الجيش، ونار الدعم السريع… بينما المواطن يحترق في المنتصف.
وإذا سألتهم اليوم: أين السلام؟ قالوا: “ضاع بسبب الإمارات!”
وإذا سألتهم: من قتل المدنيين؟ قالوا: “الطرف الآخر!”
وإذا قلت: أنتم الطرف الآخر! قالوا: “نحن الدولة!” وإذا سألت: وأين الدولة؟ قالوا: “في لاهاي… تشتكي!”
الجنائية الدولية تلاحقهم، لكنهم قرروا أن يلاحقوا يد الإمارات البيضاء.
ضحاياهم ينامون في العراء، وهم نائمون في أحضان نظريات المؤامرة.
الدنيا تحترق، وهم يبحثون عن متهم خارجي… أي متهم، المهم ألا يُقال: “أنتم السبب.”
لكن الحقيقة يا سادة، أن من يهرب من مسؤولية تدمير وطنه، لا يحق له أن يتحدث عن القانون، ولا عن السيادة، ولا عن العدالة.
فمن أشعل النار، لا يمكن أن يتّهم من أتى بالماء بالخيانة.