عندما يحضر المسيحيون قداسًا كاثوليكيًا، خاصةً خلال الطقوس الجنائزية، فإنهم بلا شك يلاحظون انتشار رائحة البخور العطرة التي تتسلل إلى الأجواء، وتُضفي لمسة من القداسة والرهبة.
تلك الرائحة، المستوحاة من المرّ واللبان، تذكرنا بهدايا المجوس الثلاثة للمسيح الطفل في قصة الميلاد.
ولكن، ما السبب وراء تحريك الأساقفة للكأس المعدنية المتدلية، المعروفة باسم “المجمرة” أو “المبخرة”، وإطلاق أعمدة الدخان المتصاعدة منها؟
تقليد قديم
استخدام البخور في الطقوس الدينية ليس حكرًا على المسيحية، بل هو تقليد قديم يعود إلى آلاف السنين. فمنذ الحضارات الأولى، ربطت البشرية بين الروائح العطرية والممارسات الروحية، معتبرة أن الدخان المتصاعد منها يحمل الدعاء إلى السماء.
استخدمت الحضارات الهندوسية والبوذية البخور لتطهير الأجواء وإيجاد حالة من الصفاء الذهني، بينما لجأت القبائل الأمريكية الأصلية إلى إحراق الميرمية لإبعاد الطاقات السلبية.
أما في اليهودية، فقد كان للبخور مكانة خاصة، إذ أمر الله النبي موسى باستخدامه في الطقوس التعبدية، وانعكس ذلك في المسيحية حيث امتلأت العهدان القديم والجديد بإشارات تربط بين الرائحة الطيبة والقداسة الإلهية، مما جعل استخدام البخور في الكنائس امتدادًا لهذا الإرث العريق.
استحضار روائح الفردوس
حتى وإن بدا لبعض المراقبين أن بعض الطقوس الدينية قد فقدت معناها الأصلي، إلا أن معناها الروحي ما زال حاضرًا بقوة.
على سبيل المثال، يلجأ الناس اليوم إلى العلاج بالروائح العطرية كوسيلة للاسترخاء والتخلص من التوتر، وهو مبدأ مشابه لاستخدام البخور في الطقوس الدينية، حيث يُعتقد أنه يساعد في استحضار الأجواء السماوية والتواصل مع الله.
عندما اعتنق الإمبراطور الروماني قسطنطين المسيحية عام 312 ميلادية، سُمح تدريجيًا بإدخال بعض الممارسات الوثنية إلى الطقوس المسيحية.
وقد تبرع قسطنطين نفسه ببعض المباخر إلى كنيسة في روما لتحسين رائحتها، ومن هنا بدأ استخدام البخور في الانتشار داخل الكنائس، خاصة بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية عام 476 ميلادية، حيث واصل القسم الشرقي في القسطنطينية، المعروف اليوم بالكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، الحفاظ على هذا التقليد.
البخور في الطقوس الجنائزية
كان استخدام البخور في الجنازات المسيحية موجودًا منذ القرن الثاني الميلادي، لكنه لم يصبح قاعدة عامة إلا بحلول عام 1350.
في البداية، كان يُستخدم فقط في جنازات الشهداء، ثم توسع ليشمل مراسم تكريس الكنائس، قبل أن يصبح جزءًا رئيسيًا من طقوس الجنازات اليوم.
يُستخدم البخور خلال القداس الجنائزي لعدة أسباب: تكريم الميت، تقديس المكان، وإظهار الاحترام لله، وتخضع طريقة استخدامه لقواعد صارمة حددها الفاتيكان في “التعليمات العامة للقداس الروماني”، حيث يُستخدم خلال مواضع محددة من القداس مثل الموكب الافتتاحي، وقراءة الإنجيل، وعند تقديم القرابين. كما توجد توجيهات دقيقة تتعلق بعدد المرات التي يُحرك فيها المبخرة، والاتجاهات التي يجب أن يتبعها الكاهن أثناء تحريكها.
الاختلاف بين الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية
بالرغم من أن الكنيسة الأرثوذكسية والكاثوليكية تشتركان في استخدام البخور، فإن الكنيسة الأرثوذكسية تلتزم بقواعد أكثر صرامة فيما يتعلق بتفاصيل استخدامه.
على سبيل المثال، خلال الجنازات الأرثوذكسية، يقود الكاهن موكبًا حول التابوت، حيث “يبخر” الجثمان والمصلين، مع إنشاد التراتيل التقليدية، كما يتم وضع شمعة ووعاء يحتوي على مزيج من القمح والعسل عند رأس التابوت كرمز للقيامة والحياة الأبدية.