ماذا حدث؟
تشهد دول شمال إفريقيا تحولًا جذريًا في سياساتها الخارجية، حيث باتت تضع مبدأ “السيادة أولًا” في مقدمة أولوياتها، متبعة نهجًا أكثر براغماتية في علاقاتها الدولية.
أصبحت الحكومات في المنطقة تعتمد بشكل متزايد على المفاوضات الثنائية بدلاً من الاتفاقيات متعددة الأطراف، وتركز على تحقيق فوائد اقتصادية قصيرة الأجل، وتعزز الاعتماد على الذات بدلًا من الارتهان إلى المؤسسات الدولية.
هذا التوجه يعكس تغيرًا عالميًا أوسع، حيث باتت القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة وأوروبا، تميل إلى تعزيز سيادتها الوطنية عبر سياسات اقتصادية أكثر استقلالية وتعاون اقتصادي انتقائي.
لماذا هذا مهم؟
هذا التحول في السياسة الخارجية لدول شمال إفريقيا يمثل تحديًا للنفوذ التقليدي للقوى الغربية في المنطقة، لا سيما الاتحاد الأوروبي، الذي كان يعتمد على شراكات قائمة على التبعية في مجالات مثل التجارة والهجرة.
على سبيل المثال، وقعت تونس اتفاقًا بقيمة 1.7 مليار يورو مع الاتحاد الأوروبي عام 2023 يركز على ضبط الهجرة، فيما وقّعت موريتانيا اتفاقًا مشابهًا بقيمة 210 ملايين يورو في 2024، في تأكيد على تحول هذه العلاقات إلى صفقات محددة الأهداف بدلاً من الاتفاقيات الشاملة.
علاوة على ذلك، أدى اعتماد مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على شروط قاسية مقابل التمويل إلى دفع بعض الدول، مثل تونس والمغرب، للبحث عن بدائل أكثر مرونة، مثل التمويلات الثنائية والاستثمارات الخليجية والصينية.
الجزائر بدورها وسّعت شراكاتها مع تركيا والصين في مجال التسليح، مما يعكس تنويع مصادر القوة العسكرية والسياسية بعيدًا عن النفوذ الغربي التقليدي
هذا التحول ليس فقط نتيجة لخيارات حكومية، بل أيضًا استجابة لمطالب شعبية في شمال إفريقيا، حيث يتزايد الضغط الداخلي لإنهاء التبعية الاقتصادية والسياسية للقوى الغربية.
كما أن تصاعد النزعات القومية في تونس والمغرب، والاحتجاجات ضد السياسات الغربية، يعزز هذا الاتجاه، خاصة مع تزايد النموذج الصيني-الروسي كبديل للتعاون دون شروط سياسية صارمة.
ماذا بعد؟
إذا استمر هذا النهج، فمن المرجح أن نشهد تراجعًا تدريجيًا في تأثير المؤسسات الغربية في شمال إفريقيا، مع استمرار الدول في تبني صفقات ذات طابع عملي بحت، بدلاً من التزامات طويلة الأمد.
كما أن التعاون المستقبلي بين دول شمال إفريقيا والغرب قد يصبح أكثر انتقائية، يتركز على مشاريع محددة مثل الطاقة المتجددة، المعادن الاستراتيجية، والتعاون في مجالات البنية التحتية والنقل.
الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أمام تحدٍّ كبير: هل يواصلان التمسك بنهج الشراكات المشروطة، أم يعيدان النظر في طريقة تعاملهما مع شمال إفريقيا وفقًا للواقع الجديد؟
على ما يبدو، فإن أي تعاون مستقبلي سيكون أكثر نجاحًا إذا بُني على أسس واضحة من المصالح المتبادلة بدلاً من محاولات فرض نماذج جاهزة لا تتماشى مع أولويات دول المنطقة.