علي عبد الرازق وصدام الفكر: هل الإسلام دين أم دولة؟

#image_title

كتبت : إيمان زين

لم يكن الشيخ علي عبد الرازق مجرد عالم أزهري، بل كان مفكراً جريئاً تحدّى الخطاب الديني السائد في عصره، وقدم أطروحة قلبت المفاهيم حول علاقة الإسلام بالحكم. في كتابه الشهير “الإسلام وأصول الحكم” (1925)، أثار عبد الرازق جدلاً واسعاً بطرحه فكرة أن الإسلام دين وليس دولة، وأن الخلافة اجتهاد بشري لا قداسة له، مما أدى إلى محاكمته وسحب شهادة العالمية منه. ورغم الهجوم العنيف الذي واجهه، لا تزال أفكاره تُناقش حتى اليوم باعتبارها مفصلية في الجدل حول فصل الدين عن السياسة.

رحلة فكرية بين الأزهر وأكسفورد

وُلد علي عبد الرازق عام 1888 في صعيد مصر، في عائلة ثرية ذات نفوذ ديني وسياسي. بدأ تعليمه في الأزهر حيث درس العلوم الشرعية، ثم أكمل دراساته العليا في جامعة أكسفورد، ما جعله مطلعًا على الفلسفة الغربية والنظريات السياسية الحديثة. هذه الخلفية المزدوجة جعلته يعيد التفكير في المفاهيم التقليدية المتعلقة بالحكم الإسلامي.

“الإسلام وأصول الحكم”: زلزال فكري

في كتابه، طرح عبد الرازق رؤية جديدة مفادها أن الإسلام لم يحدد نظامًا سياسيًا معينًا، وأن النبي ﷺ كان رسولاً هاديًا وليس مؤسسًا لدولة. أبرز أفكاره:

•غياب نص ديني يحدد شكل الحكم: يرى أن القرآن والسنة لم يفرضا نظاماً سياسياً محدداً، بل اكتفيا بمبادئ عامة مثل العدل والشورى.

•الخلافة ليست من أصول الإسلام: يعتبر أن الخلافة نشأت كحل تنظيمي بعد وفاة النبي، لكنها ليست جزءًا من العقيدة.

•السياسة مجال بشري متغير: يرفض فكرة أن الحكم يجب أن يكون دينيًا، ويرى أن السياسة تخضع للاجتهاد وفقًا للمصالح والظروف.

هذه الطروحات كانت بمثابة صفعة للخطاب التقليدي الذي كان يعتبر الخلافة ركناً أساسياً في الإسلام.

ردود الفعل: محاكمة فكرية وقضائية

أثار الكتاب غضب المؤسسة الدينية في مصر، ووُصف بأنه تهديد للإسلام ومحاولة لهدم أركانه. عام 1925، خضع عبد الرازق لمحاكمة تأديبية في الأزهر، انتهت بسحب شهادة العالمية منه، في موقف يعكس الصدام بين التجديد الديني والسلطة التقليدية.

لكن في المقابل، حظي بدعم من المثقفين الليبراليين، الذين رأوا في كتابه إعادة قراءة جريئة للنصوص الدينية بعيدًا عن التقديس السياسي.

تفكيك الخلافة: رؤية تاريخية

يذهب عبد الرازق إلى القول بأن الخلافة لم تكن نظامًا مقدسًا، بل تجربة سياسية بشرية خضعت للتحولات والصراعات. ويرى أن:

•الخلافة الراشدة كانت اجتهادًا تنظيميًا، وليست نموذجًا إلهيًا.

•الصراعات السياسية والفتن الكبرى في عهد الصحابة تؤكد أن الخلافة كانت نظامًا سياسيًا متغيرًا.

•تحوّل الخلافة إلى ملكية وراثية في العصرين الأموي والعباسي يُثبت أنها لم تكن حكمًا دينيًا خالصًا.

فصل الدين عن السياسة: ضرورة أم خطر؟

يرى عبد الرازق أن دمج الدين بالسياسة أدى إلى استغلال الدين لتحقيق مكاسب دنيوية، وأدى إلى تقديس الحاكم وشرعنة الاستبداد. لذا، يدعو إلى:

•تحرير السياسة من القدسية الدينية، وإخضاعها للنقاش والاجتهاد.

•إنشاء دولة مدنية تستند إلى القوانين الوضعية، ولا تعتمد على تفسير ديني واحد للحكم.

•الفصل بين الدين والدولة لا يتناقض مع الإسلام، بل يحقق مقاصده في العدالة والمساواة.

الإرث الفكري لعلي عبد الرازق

توفي علي عبد الرازق عام 1966، لكن أفكاره ظلت حاضرة في النقاشات حول علاقة الإسلام بالدولة. فقد فتح الباب أمام التيارات الفكرية التي تناقش تحديث الفقه الإسلامي، وفصل الدين عن الحكم.

ومع استمرار الجدل حول الإسلام السياسي وصعود الحركات الدينية، يبقى السؤال الذي طرحه عبد الرازق مطروحًا بقوة: هل الإسلام جاء ليؤسس دولة، أم ليبني الإنسان؟ ربما كان عبد الرازق سابقًا لعصره، لكنه بالتأكيد لم يخرج من التاريخ، بل صار جزءًا منه.

شارك هذه المقالة
لا توجد تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *