توقف عن الدفع من أجل التحفيز.. وانتبه إلى الانضباط

#image_title #separator_sa #site_title

بقلم عامر الأحبابي

لماذا لا يُباع النجاح الحقيقي على الإنترنت، ولماذا يظل الانضباط هو الرابح في عصر الأوهام؟

تأتي دوافع كتابة هذا المقال اليوم من وحي سنوات من الحوارات التي أجراها عامر الأحبابي مع طلاب ومهنيين ورجال أعمال وقادة ماليين، في جامعات وورش عمل ومجتمعات أعمال داخل وخارج دولة الإمارات العربية المتحدة. فبعد تقديم عشرات الجلسات والتفاعل مع مئات العقول الطموحة، برز نمط واحد واضح: الكثيرون يتنقلون في عالم يملؤه الضجيج والتشويش والتعريفات المضللة للنجاح.

أحد الأسئلة التي تُطرح عليّ مراراً هو:

“هل توصي بأخذ إحدى تلك الدورات التدريبية المتاحة على الإنترنت أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تعلم كيفية جني المال؟”

إنه سؤال صادق ويعكس العصر الذي نعيش فيه. كانت إجابتي دائماً واحدة: إذا كان شخص ما يعرف حقاً كيف يبني الثروة، فسيكون تركيزه منصباً على خلقها بدلاً من بيعها كدورة تدريبية. لا يسعى رواد الأعمال الحقيقيون إلى تحقيق الربح من بيع النصائح، بل يبنون قيمة.

“النجاح ليس منتجاً يُباع، بل هو عملية تُعاش”. – عامر الأحبابي

نحن نعيش في حقبة يُخلط فيها غالباً بين الظهور والمصداقية. يقدم المؤثرون والمدونون نسخاً مُعدّلة بعناية من النجاح، ويبيعون اختصارات تعد بنتائج فورية ومكافآت سهلة. قد تجذب هذه الروايات الانتباه، لكنها نادراً ما تبني جوهر حقيقياً. النجاح ليس معادلة يمكن شراؤها؛ بل هو عملية يجب أن تُعاش وتُكتسب.

أنا لست ضد من يشاركون المعرفة عبر الإنترنت. بعضهم يلهم ويثقف بصدق. لكن ما يقلقني أكثر هو مدى سهولة تشويه هذه المنصات للواقع، ما يجعل النجاح يبدو وكأنه لا يتطلب جهداً. يجب أن يأتي التعلم الحقيقي من أشخاص قاموا بالفعل ببناء شيء ما، ممن واجهوا التحديات، وخاضوا المخاطر، وحققوا نتائج ملموسة؛ وليس من صناع محتوى يعيدون تدوير الأفكار دون تنفيذها مطلقاً.

الحماس يتلاشى؛ أما الانضباط فهو الذي يبني. التحدي اليوم ليس في العثور على المعلومة، بل في تطبيقها. السؤال الحقيقي ليس “أين أجد المعرفة؟” بل “كيف أستخدمها بحكمة، ومتى يجب أن أتصرف بناءً عليها؟”. من هنا تبدأ الحكمة الحقيقية. فالمعرفة دون توقيت وخبرة ما هي إلا ضجيج.

مؤخراً، قرأت مقالاً ثاقباً لروبرت جليزر في مجلة “فوربس” بعنوان “لماذا يجب أن تتوقف عن أخذ دورات ’الثراء السريع‘”. لقد لامست رسالته جوهر ما شهدته في نقاشاتي مع رواد الأعمال والطلاب. الكثير من الناس يدفعون مقابل التحفيز بدلاً من العمل من أجل التحوّل. يصف الكاتب كيف يستغل “المعلمون” الافتراضيون الطموح من خلال بيع الأوهام، وهو أمر رأيته مرات لا تُحصى.

وهذه هي الحقيقة التي أشاركها دائماً: إذا كان شخص ما يمتلك حقاً معرفة تستحق التعلم، فلن يحتاج إلى بيعها لك. أنا لن أثق أبداً بشخص يتقاضى مقابلاً مادياً مقابل حكمة يدعي أنها غيّرت حياته. الأشخاص الذين يعرفون حقاً كيفية تحقيق النجاح على استعداد لمشاركته؛ كل ما عليك هو البحث عنه من الأشخاص المناسبين، وفي الوقت المناسب، وبالطريقة الصحيحة. النجاح لا يُباع أبداً. إنه يُكتسب.

غالباً ما تتجسد هذه الأفكار من خلال ورش العمل والجلسات والحوارات العديدة التي أجريتها مع مختلف المجتمعات على مر السنين. ما يبدأ كنقاش حول التخطيط المالي يتطور في كثير من الأحيان إلى شيء أعمق يتعلق بالوضوح، والانضباط، والثقة بالنفس. إن أعظم استثمار يمكن لأي شخص أن يقوم به هو في ذاته – في تعليمه، وصبره، وقدرته على مواصلة التعلم حتى بعد الانتكاسات.

يبدأ النجاح الحقيقي بك أنت. القيادة تبدأ من الداخل، ولا تتعلق بما تديره، بل بكيفية إدارتك لنفسك أولاً. غالباً ما أسأل المشاركين سؤالاً بسيطاً: “ما هو التغيير الأول الذي ستقوم به غداً لكي تنمو شركتك، لا لكي تعمل فحسب؟” النمو هو نتيجة للتغيير المستمر، وليس للراحة الدائمة.

الكتب، والتدريب العملي، والتحديات الواقعية تُعلّم دروساً لا يمكن لأي مؤثر أو “معلم” افتراضي تقليدها. يأتي النمو من الملاحظة، والتكرار، والتفكير – وليس التقليد. العالم لا يحتاج إلى المزيد من تابعي الاتجاهات؛ بل يحتاج إلى أفراد يفهمون هدفهم، وقيمهم، واتجاههم طويل الأمد.

أحد أهم الدروس التي أشاركها في جلساتي هو: “اختر من تستمع إليه، بنفس العناية التي تختار بها من تمشي معه.” ليست كل الأصوات تستحق انتباهك. العالم مليء بالآراء، لكن القليل جداً منها يأتي من خبرة حقيقية. استمع لأولئك الذين بنوا، وفشلوا، ونهضوا مجدداً.

ناقشنا أيضاً قصص نجاح وأمثلة تحذيرية من مشهد ريادة الأعمال. إحدى الحالات كانت شركة “Builder.ai”، وهي شركة ناشئة في مجال التكنولوجيا حظيت بثناء عالمي لنموذجها المعتمد على الذكاء الاصطناعي في تطوير التطبيقات، ولكنها واجهت لاحقاً تدقيقاً بشأن حوكمتها وقضايا تقييمها، على الرغم من تلقيها استثمارات من مؤسسات دولية كبرى. أصبح ذلك تذكيراً قوياً بأن الاهتمام لا يساوي الإنجاز، وأن حتى المشاريع الممولة جيداً يمكن أن تفشل إذا بُنيت على الضجيج بدلاً من الصدق. كما أقول دائماً لجمهوري: “لا تبنِ نجاحك على الدعاية، بل على القيمة الحقيقية”.

في المقابل، سلطنا الضوء على مؤسسين بدأوا بموارد متواضعة لكنهم بنوا شركات قوية ومستدامة بالتركيز على الأخلاق، والعمل الجماعي، والمساءلة. كان نجاحهم أبطأ، لكنه كان حقيقياً؛ بُني على النزاهة لا الوهم.

طوال رحلتي مع “فيرتكس القابضة” (Vertix Holdings) وشركاتها الشقيقة، رأيت المبدأ ذاته يثبت صحته: الانضباط هو الشريك الصامت لكل قصة نجاح. الخطة المالية ليست مجرد أرقام؛ إنها بيان نية. إنها تُعرّف لماذا يُبنى شيء ما، ومن يخدم، وكيف سيصمد.

كما أقول غالباً: “لن تبني إمبراطورية أبداً ما لم تحب ما تفعله، وتفهمه بعمق، وتحترمه احتراماً كاملاً.” النجاح المبني دون شغف أو احترام لا يدوم أبداً. الهدف يعطي الاتجاه؛ والانضباط يمنح القدرة على التحمل.

ما يبعث على الأمل هو أن هناك فضولاً حقيقياً وشغفاً للتعلم في كل نقاش أجريته مع الجيل القادم – سواء كانوا طلاباً، مؤسسين، أو مهنيين. إنهم لا يبحثون عن إجابات سهلة؛ بل يبحثون عن الحقيقة. هذا يمنحني الثقة بأن مستقبل ريادة الأعمال سيُصاغ من خلال الأصالة، وليس الأوهام.

لأن الحقيقة بسيطة ولكنها غير قابلة للاهتزاز: لا يمكن بيع النجاح الحقيقي؛ يجب أن يُكتسب.

وإلى رواد أعمال المستقبل، استمروا. أنتم الفاعلون الحقيقيون، البناؤون الحقيقيون، من سيشكلون ما هو قادم. لا تنتظروا اللحظة المناسبة؛ بل اخلقوها. لا تسعوا إلى التحقق؛ بل اكسبوه. آمنوا بأفكاركم، قاتلوا من أجلها، ولا تقللوا أبداً من قوة المثابرة.

نحن نؤمن بكم والمستقبل لكم.

نبذة عن الكاتب

عامر الأحبابي هو رئيس مجلس إدارة “فيرتكس القابضة” (Vertix Holdings)، وعضو مجلس الإدارة العالمي في معهد المحاسبين الإداريين (IMA)، وعضو في مجلس فوربس المالي. يكتب عن القيادة، وريادة الأعمال، وقوة النمو المنضبط.

شارك هذه المقالة
لا توجد تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *