ماذا حدث؟
في لحظة فارقة من التاريخ السياسي التونسي، أسدلت العدالة الستار على واحدة من أعقد قضايا التآمر على أمن الدولة، بعد أن أصدرت المحكمة الابتدائية أحكاماً قضائية قاسية بالسجن تتراوح ما بين 13 و66 عاماً بحق نحو 40 شخصية بارزة، أغلبهم من رموز جماعة “الإخوان” في تونس، وعلى رأسهم قيادات من حركة النهضة المتورطة في محاولة انقلابية استهدفت نظام الحكم.
تفاصيل القضية، التي تعود إلى فبراير 2023، كشفت عن تحركات منظمة قادها سياسيون ورجال أعمال ودبلوماسيون وإعلاميون، سعوا لإثارة الفوضى وتقويض سلطة الرئيس قيس سعيد، مستغلين الأزمات الاجتماعية والاقتصادية لتأليب الشارع وجر البلاد إلى نفق عدم الاستقرار.
وعلى رأس المخطط، برز اسم خيام التركي، زعيم حزب التكتل، كمرشح الإخوان لرئاسة الدولة، وكان يمثل حلقة الوصل بين عناصر المؤامرة وبعض الشخصيات داخل القصر الرئاسي بقرطاج.
تحقيقات الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي استمرت شهوراً، أظهرت تسجيلات واتصالات تؤكد وجود خطة ممنهجة لإعادة إنتاج المشهد السياسي القديم من خلال الرجوع إلى دستور 2014، وتشكيل حكومة موازية تنقلب على السلطة الشرعية. كما كشفت التحقيقات محاولات لتجنيد بعض القيادات الأمنية والعسكرية للتواطؤ في المخطط.
وكان من أبرز المحكوم عليهم نور الدين البحيري، وزير العدل الأسبق ونائب رئيس حركة النهضة، والذي نال حكماً بالسجن لـ43 عاماً، إلى جانب القيادي عبد الحميد الجلاصي الذي حُكم عليه بـ13 عاماً، بينما نال رجل الأعمال كمال اللطيف أقسى الأحكام بـ66 عاماً.
لماذا هذا مهم؟
تمثل هذه الأحكام القضائية تحولاً جذرياً في المشهد السياسي التونسي، ليس فقط لأنها وضعت حداً لمحاولات التآمر على مؤسسات الدولة، بل لأنها ترسّخ لمفهوم سيادة القانون واستقلال القضاء.
الأهمية الأكبر تكمن في أن هذه الخطوة قد تكون بداية نحو تصنيف جماعة “الإخوان” في تونس كتنظيم إرهابي، وهو ما يتماشى مع مبادرات برلمانية قائمة بالفعل تطالب بحل حركة النهضة وتجريم نشاطها السياسي.
المحللان السياسيان عمر اليفرني وعبد الرزاق الرايس اعتبرا أن هذه الأحكام ليست فقط ردعاً قانونياً، بل هي أيضاً نهاية وهم “العودة إلى الحكم” الذي كانت تتشبث به حركة النهضة.
وأشارا إلى أن هذه الحركة باتت بلا نفوذ فعلي، بعد انهيار أدواتها التقليدية في الإعلام، والتمويل، والتحالفات، بل إنها فقدت موقعها الشعبي، وبات وجودها لا يتجاوز خانة “الذكريات السياسية”.
وينتظر الجميع الخطوة التالية وهي تفكيك ما تبقى من شبكات التنظيم داخل المؤسسات والمجتمع في استعادة تونس لمؤسساتها الوطنية، بعد سنوات من التغلغل الإخواني في مفاصل الدولة خلال العقد الماضي، حيث ارتبط اسم الحركة بالاغتيالات السياسية والتسفير إلى بؤر التوتر، والتمويلات المشبوهة من الخارج.
ماذا بعد؟
التطورات المتلاحقة تشير إلى أن تونس تقف على أعتاب محطة تاريخية حاسمة، إذ من المرجح أن تتبع الأحكام القضائية خطوات تشريعية وسياسية صارمة، على رأسها تصنيف حركة النهضة كتنظيم إرهابي، وهي خطوة إن تمت، فستغلق بابًا ظل مفتوحًا لسنوات أمام عودة الجماعة للعمل السياسي تحت واجهات متعددة.
المبادرات البرلمانية الداعية لتجريم الحركة تشدد على أن “تفكيك منظومة الخراب” التي أفرزتها النهضة ضروري لبناء دولة حديثة قائمة على الشفافية والسيادة الوطنية.
ومن المؤشرات الدالة على التوجه الرسمي، قيام السلطات التونسية بإغلاق مقرات الحركة، ومنع اجتماعاتها، والتحقيق مع رموزها في ملفات أخرى قيد الإعداد.
الشارع التونسي، وفق مراقبين، لم يعد يرى في حركة النهضة سوى “أداة هدم” فقدت كل شرعياتها، ولم تعد تملك أي رصيد أخلاقي أو سياسي.
وبحسب التسريبات، فإن الشهور المقبلة قد تشهد قرارات سيادية حاسمة بإصدار حكم بحل الحركة وتصنيفها رسمياً ضمن الجماعات الإرهابية، ما سيكون له صدى داخلي واسع، وتأثير إقليمي كبير.