سارتر: البداية كالنهاية
“لقد بدأتُ حياتي كما سأُنهيها على الأرجح: وسط الكتب.” عندما قرأتُ هذه العبارة للفيلسوف جان بول سارتر شعرتُ بمدى عمقها وصدقها. إنها دعوة للتفكر وملاحظة مدى تأثير بداياتنا على نهايات حياتنا. وأنا أراه مُحقاً فيما قاله وقد قمتُ بمراجعة بعض جوانب حياتي شخصياً ورأيت الأثر الممتد لاختياراتي وتفضيلاتي الشخصية بشكلٍ مبكر على حياتي اليوم. لاحظتُ بأن الكثير مما كنت أحب قضاء الوقت في ممارسته في صغري هو ما استمر معي حتى هذه اللحظة. حب القراءة والكتب لا زال ملازماً لي لدرجة أنني أستهلك محتوى مكتوب في وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من المحتوى المرئي. حبي للقراءة الجهرية في المدرسة هو ما ساعدني اليوم في التقديم والإلقاء الصوتي. حب الكتابة باللغتين العربية والانجليزية مستمر معي في كتاباتي البسيطة التي أشاركها بين الحين والآخر. وحب اللغتين عندي بلا منافسة بينهما، هو مجرد حب خالص لهما ولا أعلم لم يقوم بعض الأدعياء باختلاق صراعٍ خبيث بين لغتين جميلتين ومهمتين لإثبات أن أحدهما تحمل تفضيلاً مقدساً عند جماعةٍ ما ويريدون فرض هذا التفضيل والانحياز بشكلٍ قبيح ولا ينتمي للواقع وقيم المشاركة والتعاون البشري. من ناحية أخرى، هذه جملة تدل على اتخاذ قرارٍ واعٍ بالتمسك بخيارٍ يناسب سارتر، إذاً هو ليس فقط إنسان تأثر بغير رغبة داخلية منه بما يحيط به، بل هو من اختار في مرحلةٍ ما بقناعة وحب أن يقرأ ويتعلم ويتفكر وأعاد اختيار هذا الأمر طيلة حياته. حرية الاختيار هذه تدل على أن الإنسان كائن حر وواعٍ. يقول سارتر: “إننا حرية تختار، ولكننا لا نختار أن نكون أحراراً، إننا محكوم علينا بالحرية.” وهذا هو ما يميز الإنسان العاقل، حرية الإرادة وتحمل مسؤولية قراراته واختياراته. وهذا ما يؤمن به الكثير من العقلانيين والمفكرين والحكماء، الإنسان حر وليس عبداً أو تابعاً بلا رأي خاص به. وهذا ما أراده الله للإنسان، أن يكون حراً ومفكراً وفضولياً ومُحِباً للتعلم بلا أعذارٍ أو قيود.
سارتر: الإنسان مشروع
“إن الإنسان عند سارتر مشروع ولما كان مشروعاً فإنه كي يوجد لابدّ من أن يُجدّد نفسه باستمرار، وأن يختار نفسه إلى الأبد.” هذا يلخص طريقة تفكير سارتر وكل إنسان انشغل بذاته، وتطويرها، وتقويمها، ورقيّها. لا يراهن الإنسان إلا على ذاته بينما يخسر من يراهن على شيء خارجي كالأشخاص، والوظيفة، والمال، والشهرة. أن تكون أنت مشروعك الأبدي هو ما يحفزك لحب ذاتك والعناية بها والحرص على تطويرها. وعن الحرية يقول سارتر “الحرية الإيجابية هي الحرية الحقيقية، لأنها تقترن بخلق الذات الأصلية وبالقدرة على الارتباط التلقائي الذي من خلاله يتّحد الإنسان بالعالم وبالآخرين من دون أن يفقد استقلاله أو يضحّي بذاته.” هذا هو مفهوم الحرية الحقيقية، الحرية المسؤولة، أن نرتبط بالواقع والآخرين من دون أن نفقد استقلالنا أو نضحي بذاتنا. للأسف يُروّج الكثيرون لمفهوم التضحية السلبي والذي يجعل الإنسان ضعيفاً وكئيباً وغاضباً لفقدانه مساحته الخاصة وعدم قدرته على رفض تدخلات الآخرين في حياته تحت مسمى التضحية. حرية الإنسان أغلى ما يملكه وهناك من يستهدفُها بجهلٍ أو عمد كي يتخلى عنها ليثبت للمجتمع أنه جزء منه بينما يستطيع أن يختار أن يكون مرتبطاً به بدون التضحية بحدوده الشخصية، ومساحته الخاصة، وحريته، ووقته. أن تكون أنت، ذاتك الأصلية والحقيقية في عالم يُطالبك بأن تكون شخصاً آخر لا يشبهك كي تتماهى وتذوب مع الآخرين، هو الشجاعة الحقة.
نيتشه: النبل والانحطاط
أما نيتشه، ذلك الفيلسوف المتمرد على كل شيء، له آراء تستحق التمعن والتفكر. “يستبعد نيتشه التمييز التقليدي بين الخير والشر، ويقول بتمييز جديد هو التمييز بين النبيل والمنحط.” يظن البعض أن كلمات نيتشه ومقصده عنصري وطبقي، بينما أراها حقيقة لا زالت موجودة في واقعنا المعاصر، النبيل هو الذي يمارس التصرفات النبيلة والراقية بينما المنحط يمارس سلوكيات مشينة ومنحطة بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية التي ينتمي لها. وقبل السلوكيات هناك الأفكار والمشاعر والكلمات وتأتي التصرفات لتثبتها على أرض الواقع. عندما تفكر في النبل والانحطاط تطرأ على بالك سلوكيات تنتمي إلى كلٍ منهما. ربما لا يوجد شخص مثالي، ولكن هناك شيءٌ ما يطغى على كل إنسان بقدر وعيه ومراجعته لنفسه وتصحيح مساره وعلى الرغم من تشاؤم البعض ونفي صفة النبل على واقع اليوم إلا أن الإنسان النبيل بجمال فكره وسلوكه يلفت انتباه الآخرين تجاهه بكل هدوء وبدون رغبة منه في لفت الانتباه، وإن قلنا بأن أصحاب هذه الصفة قليلون إلا أنهم موجودون وتأثير النبل والجمال النابع منهم له تأثير أعمق وأكبر من القبح والانحطاط الصادر عن بعض الفئات المتميزة بالسطحية، والتفاهة، والعشوائية، والجهل. الإنسان النبيل أو ما أسماه نيتشه (الإنسان الأعلى) “هذا الإنسان الجديد يتّسم بالكبرياء، بالنبالة، بالحرية، بالبهجة، بالشفافية، بقوة العقل والجسد، وبقوة الإرادة.” أظن أن كل إنسان عاقل وواعٍ يسعى في داخله أولاً ليكون إنساناً نبيلاً ومتى ما تمكّن النبل من الإنسان داخلياً انعكس على خارجه وعالمه الخارجي. هذا السعي متواصل ومستمر كي لا يتراجع المرء عن اختياره النبيل ويقترب من نقيضه الفوضوي والمنحط والكاره للحياة.
الخاتمة: رؤية شخصية
أنا لا أحب تقديس الأشخاص واتخاذهم مُثُلاً عُليا، وأحب تسليط الضوء على الخير والإيجابية قدر استطاعتي، لهذا تعمّدت عدم الخوض في نواقص وتناقضات أفكار سارتر ونيتشه وهناك الكثير ممن قام بذلك فعلاً وهو أمر مهم لا محالة، هناك ما يكفي من النقد والسلبية التي يتم التركيز عليها وتداولها حول العالم، إذن لابد على الأقل من وجود شيء مقابل يركز على الجمال والتفرد في أفكار وأفعال الإنسان، وهذا ما حاولتُ القيام به قدر استطاعتي. الإنسان مشروع ذاته وعليه أن يتمسك بحريته ويتحمل تبعاتها ومسؤوليتها. النبل هو السمة الملازمة للإنسان الحر والراقي والقوي. عندما راهن الله على الإنسان واختاره لهذا الدور العظيم في الأرض كان يعلم جيداً أن الإنسان يملك القدرة على التعلم وتطويع علمه في بناء الإنسان والأرض ويعلم أيضاً أنه وإن تطرف في جانب الشر فإن الخير في البشر هو الأقوى، القليلون الخيّرون أعظم أثراً في العالم المادي وما وراء العالم المادي وإن تصور البشر غير ذلك إلا أن الحياة تتطور للأفضل علمياً وإنسانياً، وقانونياً، ومادياً، وروحياً. نحن نحيا في زمن جميل لم يحظ من سبقونا في هذه الحياة على أفضلية الاستمتاع بوجودهم به، كل زمن يحمل تحدياته التي تميزه، ولكن المميزات التي نعيشها اليوم تستحق كل الامتنان والبهجة.
المصادر:
كتاب جان بول سارتر: الكلماتLes Mots
كتاب جان بول سارتر: الوجود والعدم L’Être et le Néant
كتاب روح الشباب: حسن حماد
كتاب فريدريك نيتشه: ما وراء الخير والشر Jenseits von Gut und Böse
كتاب فريدريك نيتشه: هكذا تكلم زرادشت Also sprach Zarathustra