قبل خمسة آلاف عام، في قلب صحراء مصر القديمة، نهض رجل غيّر مسار التاريخ.
نارمر، أو مينا، الملك الذي يُعتقد أنه أول فرعون لمصر، الرجل الذي جمع شطري البلاد – الصعيد ودلتا النيل – تحت راية واحدة.
لكن من هو نارمر؟
الأدلة التاريخية القليلة تروي قصة ملك عاش في زمن الغموض، وترك خلفه إرثًا لا يزال يُلهم الدهشة.
في تلك الأيام، لم تكن مصر كما نعرفها، فكانت أرضًا مقسمة، الصعيد في الجنوب والدلتا في الشمال، كلٌ منهما يرى نفسه كيانًا منفصلاً، يحكمه زعماء محليون وصراعات دائمة.
لكن نارمر، الذي يُعتقد أنه ابن مدينة هيراكونبوليس، فعل المستحيل بجمع الشطرين، ليس فقط بالسيف، بل ربما بدهاء سياسي أيضًا.
التفاصيل غامضة، لكن لوحة نارمر، وهي قطعة أثرية من حجر السيلتستون يبلغ ارتفاعها قدمين، تقدم لمحة عن هذا الإنجاز التاريخي.
لوحة نارمر
اكتُشفت اللوحة في أواخر القرن التاسع عشر في معبد نَخن، بالقرب من هيراكونبوليس، وهي تعود إلى الفترة بين 3200 و3000 قبل الميلاد.
على أحد وجهيها، يظهر نارمر مرتديًا تاج الصعيد الأبيض، وعلى الوجه الآخر، يرتدي تاج الدلتا الأحمر، وهذه الصور ليست مجرد رسوم، بل رمز للوحدة، أول مرة يظهر فيها ملك يجمع تاجي المنطقتين في عمل فني واحد.
هل كانت هذه الوحدة سلمية؟
اللوحة تصور نارمر وهو يمسك رجلاً من شعره، مُعداً لضربه بصولجانه، بينما يقف عملاقًا أمام صفوف من الرؤوس المقطوعة، هذه الصور تشي بقوة عسكرية، لكن الحقيقة قد تكون مزيجًا من الدبلوماسية والقوة.
نارمر لم يكن مجرد محارب، فمصر في عهده كانت مركزًا تجاريًا نابضًا، تصل طرقها إلى قبرص وأفغانستان الحاليتين.
كان المصريون القدماء يتبادلون الفخار والعسل والبيرة مقابل العاج وجلود الحيوانات والنبيذ والذهب، وقد اكتشف علماء الآثار في الصعيد ما يُعتقد أنه أول حديقة حيوانات في العالم، وأول مرصد فلكي، حيث درس المصريون النجوم لتنظيم أنشطتهم الزراعية، كدليل أولي للتقويم الزراعي. هذه الحضارة المتقدمة كانت الأرضية التي قام عليها حكم نارمر.
حياة نارمر الشخصية
يُعتقد أنه تزوج من نيث-حوتب، التي ربما كانت أميرة من الدلتا، مما عزز رمزية الوحدة بين الشمال والجنوب.
حكم نارمر لأكثر من 30 عامًا، كما يشهد رأس صولجانه الذي يحتفل بمهرجان “حب-سد”، وهو تقليد استمر لآلاف السنين للاحتفال بطول عمر الفرعون، وقد خلفه ابنه، حور-عحا، ليصبح ثاني حاكم لمصر الموحدة.
أما عن وفاته، فالروايات اللاحقة زعمت أنه قُتل على يد فرس نهر، لكن ناشيونال جيوغرافيك ترى أن هذا قد يكون مجرد تعبير رمزي.
قبر نارمر، الموجود في جنوب مصر، بعيد كل البعد عن الأهرامات الفخمة التي اشتهر بها الفراعنة اللاحقون، فهو مجرد غرفتين مستطيلتين تحت الأرض، مبطنتين بطوب الطين، مع أدلة على وجود سقف غطاهما يومًا ما.
بساطة القبر تعكس زمنًا كانت فيه مصر لا تزال في مهدها، لكن إرث نارمر كان أعظم من أي هرم، فقد وضع حجر الأساس لأمة عظيمة، جمع شطريها، وفتح الباب أمام حضارة أذهلت العالم.