ماذا حدث؟
دخلت كل من الولايات المتحدة وإيران مجددًا حلبة المفاوضات النووية في محاولة لإعادة ضبط مسار اتفاق 2015 المعروف باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة”، أو ربما صياغة اتفاق مختلف كليًا يتماشى مع المستجدات الإقليمية والدولية، وهو ما يُطلق عليه البعض “الاتفاق النووي 2.0”.
هذه الجولة الجديدة من المحادثات تأتي في ظل تعقيدات سياسية وتكنولوجية متزايدة، وبمستوى غير مسبوق من انعدام الثقة المتبادل، الذي تراكم بفعل سنوات من الانسحابات والتصعيدات.
منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق عام 2018، وسّعت طهران برنامجها النووي بشكل تجاوز بنوده السابقة، حتى باتت تمتلك كميات من اليورانيوم المخصب تكفي لإنتاج أسلحة نووية خلال فترة قصيرة، بحسب ما نقلته صحيفة وول ستريت جورنال عن مصادر غربية.
وفي هذا السياق، يرى محللون أن العودة إلى الاتفاق الأصلي لم تعد واردة، خصوصًا وأن إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب كانت قد رفضت الاتفاق السابق لعدم شموله برنامجي إيران الصاروخي والإقليمي. وبالتالي، فإن أي اتفاق جديد يجب أن يعالج هذه الملفات الشائكة أيضًا، ما يجعله معقدًا تقنيًا وسياسيًا بدرجة كبيرة.
ورغم تواصل التصريحات الدبلوماسية، مثل إعلان وزير الخارجية الإيراني عن قرب التوصل إلى “أساس للمفاوضات”، وتحضيرات لعقد الجولة التالية في روما، فإن التوتر العسكري يظل حاضرًا في الخلفية، خاصة مع تحذيرات ترامب من “خطر كبير” إذا فشلت المفاوضات.
لماذا هذا مهم؟
أهمية هذه المحادثات لا تنبع فقط من الطابع النووي التقني البحت، بل من كونها تمثل مفترق طرق للسياسة الإقليمية الإيرانية ولمصير النظام نفسه.
إيران، التي تواجه أزمات اقتصادية خانقة واحتجاجات داخلية متزايدة، أصبحت أكثر حاجة من أي وقت مضى إلى كسر العزلة الدولية وتخفيف العقوبات، فاحتجاجات مثل انتفاضة مهسا أميني 2022، وما سبقها من حركات غضب اجتماعي، لم تكن إلا مؤشرات على عمق الشرخ بين الشارع الإيراني والنظام الحاكم.
ومن هنا، يفسر البعض موافقة المرشد الأعلى علي خامنئي على الدخول في مفاوضات جديدة، على أنها محاولة استباقية لتفادي ما وصفه “معهد دراسات الحرب” بحرب على جبهتين: واحدة ضد الشعب الإيراني الغاضب، وأخرى ضد المجتمع الدولي، لا سيما الولايات المتحدة.
من جهة أخرى، لا يزال البرنامج النووي ورقة الضغط الأهم بيد طهران، بعد أن فقدت الكثير من أوراقها في المنطقة، فالركائز الثلاث التي بنت عليها إيران نفوذها – البرنامج النووي، الشبكات الإقليمية المسلحة، والترسانة الصاروخية – تعرضت لانتكاسات كبيرة. فالحوثيون وحزب الله لم يعودوا كما كانوا، والدفاعات الإسرائيلية أثبتت قدرتها على التصدي للهجمات الباليستية، وتحالف دفاعي إقليمي تقوده واشنطن بات يضعف قدرة طهران على الردع.
لذلك، فإن التركيز على الملف النووي لم يعد خيارًا، بل ضرورة سياسية واستراتيجية لطهران، التي تجد نفسها أمام معادلة معقدة: إما تقديم تنازلات جوهرية، أو المخاطرة بالمزيد من الانهيار الداخلي والعزلة الدولية.
ماذا بعد؟
التساؤل المحوري الآن هو: هل تمتلك إيران القدرة والإرادة السياسية للدخول في اتفاق جديد قد يحدّ من طموحاتها النووية مقابل رفع العقوبات؟ أم أنها تناور لكسب الوقت وإعادة ترتيب أوراقها؟
الولايات المتحدة تواجه معضلة شبيهة، إذ عليها إرضاء شركائها في الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه، منع إيران من امتلاك قنبلة نووية دون الانزلاق إلى حرب جديدة.
المؤكد أن “الاتفاق النووي 2.0” لن يكون نسخة مكررة من اتفاق 2015، بحسب ما تشير إليه مراكز الأبحاث مثل منظمة رابطة الحد من الأسلحة، والتي ترى أن التقدم النووي الإيراني يجعل من المستحيل العودة إلى قيود الـ12 شهرًا لإنتاج قنبلة.
ومع ذلك، يبقى الاتفاق الممكن هدفًا مرحليًا يبطئ من اندفاعة طهران نحو التسليح، ويمنح الجميع فرصة لالتقاط الأنفاس.
في المشهد الأوسع، فإن نتيجة هذه المفاوضات ستحدد ما إذا كانت إيران ستخرج من عنق الزجاجة لتعود لاعبًا شرعيًا في النظام الدولي، أم ستواصل اللعب على حافة الهاوية، مخاطرة بكل ما تبقى لها من أوراق القوة.
وفي ظل عالم مضطرب وصراعات متداخلة، تبقى المفاوضات النووية بين واشنطن وطهران ليست مجرد شأن ثنائي، بل اختبارًا لجدوى الدبلوماسية في مواجهة الأطماع، والتكنولوجيا، وحسابات البقاء.