في قلب دمشق، حيث لا تزال ساحة المرجة تحمل أصداء الماضي، يعود اسم إيلي كوهين، الجاسوس الإسرائيلي الأسطوري، ليتصدر العناوين مجددًا.
أعلن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يوم الأحد 18 مايو 2025 عن استعادة “الأرشيف السوري الرسمي” المتعلق بكوهين، في عملية سرية نفذها الموساد بالتعاون مع جهاز استخباراتي شريك.
يضم الأرشيف نحو 2500 وثيقة، وصورة، ومقتنيات شخصية تُكشف لأول مرة، بما في ذلك وصية كتبها كوهين بخط يده قبل إعدامه في 18 مايو 1965.
هذه العملية، التي وُصفت بـ”الإنجاز الكبير”، تُعيد فتح ملف الجاسوس الذي لا تزال إسرائيل تبحث عن رفاته بعد ستة عقود من إعدامه.
ماذا حدث؟
إيلي كوهين، المولود في الإسكندرية عام 1924 لعائلة يهودية هاجرت من حلب، بدأ مسيرته الصهيونية في الأربعينيات، لينضم لاحقًا إلى الموساد.
بعد تدريب مكثف لإتقان اللهجة السورية، أُرسل إلى الأرجنتين عام 1961 ليتقمص شخصية “كامل أمين ثابت”، رجل أعمال سوري ثري.
في 1962، وصل دمشق، حيث نجح في اختراق دوائر صنع القرار، موطنًا علاقات وثيقة مع شخصيات عسكرية وسياسية بارزة، بما في ذلك أمين الحافظ، الذي أصبح رئيسًا لسوريا لاحقًا.
لأربع سنوات، نقل كوهين معلومات حساسة إلى الموساد، أبرزها خطط الدفاع السورية في مرتفعات الجولان، التي ساهمت في انتصار إسرائيل في حرب 1967، لكن في يناير 1965، كشفت أجهزة الأمن السورية أمره، وأُعدم علنًا في ساحة المرجة بعد محاكمة علنية.
الأرشيف المستعاد يشمل وصيته الأصلية، وتسجيلات صوتية من استجوابه، ورسائل لعائلته، وصور مع مسؤولين سوريين، وجوازات سفر مزورة، ومفاتيح شقته بدمشق، ويوميات تكشف مهامه السرية، مثل مراقبة قواعد عسكرية في القنيطرة.
كما تضمن ملفًا عن زوجته نادية، يوثق مراقبة السلطات السورية لحملتها للإفراج عنه، وقد شارك نتنياهو ورئيس الموساد ديفيد برنيع هذا الأرشيف مع نادية في لقاء خاص، مؤكدين التزامهم بتحديد مكان دفنه.
لماذا هذا مهم؟
يُعد كوهين رمزًا في إسرائيل، وصفه نتنياهو بـ”أعظم جاسوس في تاريخ الدولة” لدوره في تغيير مسار حرب 1967.
استعادة الأرشيف ليست مجرد إنجاز استخباراتي، بل خطوة رمزية تعكس التزام إسرائيل بإحياء ذكرى مفقوديها، خاصة في ظل استمرار احتجاز رهائن في غزة منذ أكتوبر 2023.
العملية، الثانية من نوعها في سوريا بعد استعادة رفات جندي إسرائيلي في مايو 2025، تستغل الفوضى التي أعقبت سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024.
هذا السياق الجديد، مع تولي أحمد الشرع إدارة المرحلة الانتقالية، فتح الباب أمام إسرائيل لتكثيف جهودها للبحث عن رفات كوهين وجنود آخرين.
الأرشيف يكشف أيضًا عن وصية كوين التي كتبها لنادية وأطفالهم (صوفي، وإيريس، وشاؤل)، وقال فيها: “حافظوا على الاتصال بينكم، راعوا تعليم الأطفال، ولا تضيعي وقتك في البكاء، انظري للمستقبل”، بل وأعطاها حرية الزواج مجددًا لضمان وجود أب لأطفالهم.
هذه الرسالة، التي عادت بعد 60 عامًا، تثير أيضًا تساؤلات حول سرية العملية وتوقيتها، خاصة مع تقارير عن محاولات إسرائيلية سابقة فاشلة، بما في ذلك مفاوضات مع روسيا عام 2018 لاستعادة مقتنياته.
ماذا بعد؟
رغم الإنجاز الإسرائيلي، لا يزال مكان دفن كوهين لغزًاز
يرى رئيس الموساد برنيع أن الأرشيف خطوة نحو حل هذا اللغز، لكن التحديات تظل قائمة، فرغم أن سوريا الجديدة، تحت إدارة انتقالية، قد تكون أكثر انفتاحًا للتعاون، لكن الفوضى المستمرة وتعدد الأطراف المتنافسة قد يعيقان التقدم.
تقارير إعلامية، مثل ما نشرته “تايمز أوف إسرائيل”، تشير إلى أن إسرائيل تواصل التواصل مع وسطاء إقليميين لتحديد مكان الرفات، مستغلة ضعف النظام الجديد، لكن نفي إسرائيل لتقارير عن هبوط مروحية في دمشق ديسمبر الماضي يُظهر حساسية هذه العمليات.
على الصعيد الداخلي، قد يستخدم نتنياهو هذا الإنجاز لتعزيز صورته وسط ضغوط سياسية متزايدة، خاصة مع الانتقادات الموجهة لحكومته بشأن ملف الرهائن في غزة.
مع استمرار إسرائيل في استغلال التحولات الإقليمية، قد تكشف الأيام المقبلة عن فصول جديدة في قصة كوهين، التي تظل رمزًا للغموض رغم مرور 6 عقود على إغلاق أحداثها.