ماذا حدث؟
شهدت تقنيات الذكاء الاصطناعي في السنوات الأخيرة طفرة مذهلة جعلتها حجر الزاوية في معظم التطورات التكنولوجية الحديثة، غير أن لهذا التقدم وجهاً مظلماً يغفل عنه كثيرون.
في سبيل تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي وتطويرها، يُستهلك كمٌ هائل من الموارد البيئية، من كهرباء ومياه، بشكل يهدد التوازن البيئي على كوكب الأرض.
ولتوضيح حجم المشكلة، يكفي أن نعلم أن استهلاك شركة “مايكروسوفت” وحدها من الكهرباء في عام 2023 تجاوز 24 تيراواط/ساعة، وهو ما يفوق الاستهلاك السنوي لدول كاملة مثل الأردن أو حتى المملكة العربية السعودية.
ويستخدم هذا الكم من الطاقة غير المتجددة لتغذية مراكز البيانات العملاقة التي تشغّل خوارزميات الذكاء الاصطناعي التوليدي، على غرار “تشات جي.بي.تي” و”جيميناي”.
ولم يتوقف النزيف البيئي عند الكهرباء، بل امتد إلى المياه أيضًا؛ حيث تحتاج تلك الخوادم العملاقة إلى كميات ضخمة من المياه لتبريد أجهزتها، التي ترتفع حرارتها بسبب العمليات الحسابية المعقدة، في وقت يشهد فيه العالم أزمات متزايدة في إمدادات المياه العذبة.
لماذا هذا مهم؟
تكمن خطورة هذه الظاهرة في أنها تمس البنية الأساسية لاستدامة الحياة على كوكب الأرض، فمراكز البيانات التي تعتبر العمود الفقري لتشغيل الذكاء الاصطناعي، باتت تستهلك كميات هائلة من الطاقة، وقد ارتفعت متطلباتها في أميركا الشمالية وحدها من نحو 2,688 ميغاواط عام 2022 إلى أكثر من 5,300 ميغاواط في 2023.
على المستوى العالمي، بلغ استهلاك هذه المراكز في عام 2022 ما يقارب 460 تيراواط، وهو رقم يجعلها تتفوق على دول صناعية كبرى.
وتُشير تقديرات معهد ماساتشوستس للتقنية إلى أن الاستهلاك قد يصل إلى 1,050 تيراواط بحلول عام 2026، مما يجعل مراكز البيانات واحدة من أكبر المستهلكين للطاقة في العالم، متقدمة على دول كاليابان وروسيا.
وفي ظل هذا الطلب المتسارع، تتجه بعض الدول – بما فيها الولايات المتحدة – إلى إعادة النظر في مصادر الطاقة، مثل الطاقة النووية، كبديل بيئي أقل ضررًا، لكن حتى هذا الخيار محفوف بالتحديات التقنية والسياسية.
كما أن التبريد بالمياه بات يشكل أزمة متصاعدة، فمراكز البيانات تستخدم آلاف الغالونات من المياه يوميًا لتبريد أجهزتها، مما يضغط على الموارد المحلية للمياه، ويهدد الأمن المائي للعديد من المجتمعات.
صحيح أن هناك بدائل تقنية مثل التبريد باستخدام النيتروجين، إلا أن كلفتها العالية تجعل الاعتماد على المياه أكثر شيوعًا.
ماذا بعد؟
في الوقت الذي تسابق فيه الشركات العالمية كـ”أوبن إيه آي” و”أكس.إيه.آي” و”هواوي” الزمن لإطلاق نماذج ذكاء اصطناعي أكثر تطورًا، فإن السباق المحموم نحو تحقيق السيادة في هذا المجال قد يؤدي إلى مزيد من التهديد للبيئة.
لقد أصبحنا في مفترق طرق حرج، حيث يقف التقدم التكنولوجي في مواجهة مباشرة مع استدامة كوكبنا، فمع كل تطبيق جديد للذكاء الاصطناعي يزداد استهلاك الطاقة، وتتسع الحاجة لمراكز بيانات جديدة، مما يزيد العبء البيئي.
الحواسيب الكمومية قد تمثل حلاً واعدًا، إذ إنها تعتمد على فيزياء الكم لإنجاز مهام معقدة بسرعة وكفاءة أعلى، مما قد يقلل من استهلاك الطاقة.
غير أن هذه الحواسيب ما زالت في طور التجريب، وتعاني من مشكلات مثل ما يُعرف بـ”هلوسة النماذج”، أي تقديم إجابات غير دقيقة أو غير منطقية.
وفي خضم هذا المشهد المتشابك، دخلت الصين بقوة من خلال نموذج “ديب سيك”، الذي اعتمد على تقنيات استخلاص المعرفة من “تشات جي.بي.تي” لبناء نموذج منافس بتكلفة أقل، وقد ارتفع عدد مستخدميه بشكل هائل، ليصل إلى أكثر من 700 ألف مستخدم أسبوعيًا.
الأخطر من ذلك أن هذه التطورات التقنية صارت تُستخدم في مضمار المنافسة الجيوسياسية والعسكرية، مما يضيف أبعادًا جديدة ومعقدة للمسألة.