في قلب القرن الأفريقي، كان السودان يومًا منارة أمل، مزدهرًا بثرواته الزراعية، ومعادنه النفيسة، وموقعه الاستراتيجي على ضفاف البحر الأحمر، لكن هذا الحلم تبدد تحت وطأة كارثة اقتصادية مدمرة، تفاقمت بفعل قرارات الفريق عبد الفتاح البرهان، الذي ألقى بأمة بأكملها في دوامة الفوضى.
منذ انقلابه العسكري في أكتوبر 2021، وصولًا إلى اشتعال الحرب الأهلية في أبريل 2023، تحول السودان إلى ساحة خراب، حيث تهاوى اقتصاده بنسبة 37.5% في عام واحد، وارتفعت أسعار السلع إلى عنان السماء، فيما غرق الملايين في براثن الفقر والبطالة.
ماذا حدث؟
بدأت المأساة بانقلاب البرهان العسكري في أكتوبر 2021، الذي قلب موازين السلطة، وقطع أواصر الأمل التي نسجها السودانيون بعد ثورة 2019 ضد نظام عمر البشير.
هذا الانقلاب لم يكن مجرد تغيير في الحكم، بل كان شرارة أشعلت فتيل حرب أهلية مدمرة في أبريل 2023، حيث تقاتلت القوات المسلحة السودانية بقيادة البرهان مع قوات الدعم السريع، لتتحول مدن مثل الخرطوم إلى أنقاض.
الاقتصاد السوداني تلقى ضربة قاصمة، فانهار الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 37.5% في 2023، في واحدة من أسوأ الكوارث الاقتصادية في العصر الحديث.
التضخم، الذي بلغ ذروته عند 114% في مايو 2020، استمر في التفشي كالنار في الهشيم، مُذيبًا قيمة العملة السودانية، ومُحيلًا السلع الأساسية إلى أحلام بعيدة المنال.
الدين الخارجي، الذي يُثقل كاهل البلاد بـ56 مليار دولار، أغلق أبواب الإغاثة الدولية، بينما تهاوى القطاع المصرفي تحت وطأة القروض غير المسددة، التي قفزت إلى أكثر من 10% من إجمالي الديون.
الحرب لم تدمر المصانع والمزارع فحسب، بل شردت أكثر من 14 مليون سوداني داخل البلاد، ودفعت 3 ملايين آخرين للهروب إلى دول الجوار.
الأسواق صمتت، والحقول جفت، والشباب، الذين كانوا يومًا وقود الثورة، باتوا أسرى بطالة وصلت إلى 58% بحلول 2024، فيما ابتلع الفقر المدقع 64% من السكان.
لماذا هذا مهم؟
هذه الأزمة ليست مجرد أرقام في تقارير اقتصادية، بل هي صرخات شعب يصارع من أجل البقاء، فالانهيار الاقتصادي في السودان هو قصة إنسانية تُروى بألم الملايين الذين فقدوا أحلامهم.
أكثر من 25 مليون شخص- نصف سكان البلاد- يتشبثون بالمساعدات الإنسانية كطوق نجاة، فيما تلوح المجاعة تهديدًا يطال 5 ملايين آخرين.
على الصعيد الإقليمي، يُلقي انهيار السودان بظلاله على القرن الأفريقي، فتشاد، التي تستضيف أكثر من مليون لاجئ سوداني، تترنح تحت الضغط، بينما تتأرجح إثيوبيا وجنوب السودان، الغارقتان في أزماتهما الخاصة، أمام تدفقات المهاجرين.
عالميًا، يُهدد اضطراب الملاحة في البحر الأحمر، الناجم عن الصراع، سلاسل التوريد، ويزيد من تقلبات أسواق الطاقة، مُذكرًا بأزمات ليبيا في العقد الماضي.
ماذا بعد؟
مستقبل السودان يتأرجح على حافة السكين، فالطريق إلى التعافي شاق، لكنه ليس مستحيلًا، شريطة اتخاذ خطوات جريئة.
أولًا، السلام هو حجر الزاوية، فبدون هدنة دائمة بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، ستبقى جهود إعادة البناء كمن يزرع في أرض مجدبة.
لكن السلام وحده لا يكفي؛ يجب أن يُرافقه إصلاح سياسي يُعيد الثقة بالدولة، ويُنهي هيمنة العسكر، ويُشرك المدنيين في صياغة المستقبل، على غرار ما حدث في ليبيريا بعد اتفاق السلام عام 2003.
ثانيًا، الدعم الدولي ضروري، لكنه مشروط، فتخفيف الديون وتدفق المساعدات يتطلبان استقرارًا سياسيًا وإصلاحات حقيقية، تُبعد شبح الفساد الذي يُطارد السودان منذ عقود.
ثروات البلاد، من الذهب إلى الإمكانيات الصناعية، يمكن أن تُشكل أساسًا للنهوض، لكن ذلك يحتاج إلى قيادة رشيدة، تُشبه تجربة رواندا بعد الإبادة الجماعية.
ثالثًا، التعاون الإقليمي يُمكن أن يُشكل درعًا ضد الانهيار، فيجب على الاتحاد الأفريقي ومنظمة إيغاد أن يقودا وساطة فعّالة، تدعمها دول الجوار، لضمان استقرار المنطقة، لكن هذه الجهود تتطلب إرادة سياسية، تتجاوز المصالح الضيقة التي عطلت مبادرات سابقة.